عَمْ الطاهر !
” فجأة فدبت الحركة في دروبها وازقتها، إذ بث فيها عَمْ الطاهر الحياة من جديد وحرك الدماء في شرايينها برجوعه إليها بعد غياب عنها دام أياما معدودات تكاد تبلغ الأسبوعين. كيف لا وهي المُتعوِّدة عليه وهو المُتعوِّد عليها لا يفترقان إلا لماما. سارع يومها الإبن الاكبر إلى “الحومة” يبث خبر عودة “عم” الطاهر إليها لكنها ستكون عودة قصيرة يقيم فيها ليلة واحدة ثم يحمل من هناك إلى تلك “الحومة” الأبدية الواقعة في اقاصي “الحومة” الكبيرة.
قام الناجي والمحمدان والسيدة ومحمود وآخرون من أبناء الحومة وبناتها بما يلزم لتهيئة استقبال عم الطاهر كما يحلو لهم تسميته عند التكلم معه. “البجاوي” فتوة الحومة الغلظ بطم طميمه هو نفسه سارع إلى بيت الرجل الطيب عم الطاهر معزيا محركا لسانه بما استطاع إليه سبيلا من رقيق الكلمات والطفها.
ولم يحل المساء ذلك اليوم إلا وعم الطاهر يرقد هانئا في أحضان حومته هانئ البال وهي تلهج باسمه وتردده بحرارة طاهرة.
كيف لا والرجل كان قلبها النابض وروحها التي لا تهدأ دون تكلف او ادنى ترفع لا يبغي من الحومة سوى مرضاتها ورضاها. كان عم الطاهر يقدم إليها في فصل الصيف من كل عام هديته الأجمل كعربون محبة وود وهي تتقبل هديته إليها راضية مرضية، ثمار تين ولا اطيب من تلك الشجرة المقيمة في بيته فكانت الحومة تنعم بحلاوتها قبل ان ينعم هو بحلاوتها.
وعم الطاهر مسيرته في الحياة كانت ملؤها الكفاح المرير من أجل لقمة العيش والجهاد في سبيل “خبزة” لا يحصل عليها إلا مغمدة بالجهد والعرق.
باحثا عن مصدر الرزق وعن “الخبزة” إنتقل “البروليتاري” الطيب إبن بوزيد الطيبة يافعا إلى عاصمة الجنوب التي سرعان ما احبته وأحبها وكانت له المستقر والمحتضن. تقلب عم الطاهر في شتى المهن فلاحة وتجارة وصناعة وكان اينما حل حل الرضا عنه إلى ان استقر به الأمر في “البورطو” بفضل رجلا أحبه من مشغليه السابقين. هناك عمل وكد وارتقى من “خدام حزام” إلى “دوكار” ومن ثمة وفي أواخر حياته المهنية إلى “كبران” إلى ان بلغ التقاعد المستحق.
في “البرورطو” نسج عم الطاهر علاقات ملؤها ود ومحبة مع رفاق العمل سي محمد وعم علي وعم البشير وسي رشيد … وكان التزاور بينهما بدون مناسبة وفي المناسبات خاصة وأصبحوا من الوجوه المألوفة في “الحومة” لكثرة إقبالهم عليها.
وبفضل “البورطو” ابتنى عم الطاهر لنفسه بيتا متواضعا في “وادي الرمل” شيده طوبة طوبة كما ارسل ابنائه لمدرسة “المراكشي” لطلب العلم. وللاستزادة منه كان يبعثهم إلى البيوتات المتعلمة في نواحي “الحومة” ملبين طلبه في انارتهم وارشادهم. وعم الطاهر الذي تعلم فك الخط في مدرسة محو الأمية اصبح بفضلها يمضي بخط اليد ويقرأ كتاب القرآن وإن ببالغ الصعوبة. كان الأب يحيط بابناءه ويرعاهم رعاية تفوق ما احتوته كتب علم تربية الاطفال، فلا يزجر ولا ينهر ولا يصيح ولا يعظ عندما نقع في المحظور إنما يسكت وهو المحدث الرشيق عادة أو ينغمس في صلاته هروبا من المحظور.
الإسلام عند عم الطاهر في مقام زهرة ثانية في حياته بجانب زهرته الاولى الزوجة والحبيبة يرعى هذا كما يرعى تلك لا يحدثك عن هذه كما لا يحدثك عن تلك ولا يرغى كلامه عنهما ابدا فهما محفوظتان لنفسه في القلب والوجدان، ولما احتلت الغربان السود في وقت من الاوقات مصلى “واد الرمل” آثر حينئذ ان يعود بزهرته الثانية إلى البيت لتبقى هناك يانعة يحفظها ويرعاها.