أريج الكلام : عـــــــــــالم الخيول 2
امتطي معكم جوادًا أجردَ سابحًا من العِتاق لتنزّه في حدائق اللغة العربيّة وأشعارها المتّصلة بالخيل. وللعرب أقوال كثيرة في أجود الخيل منها أن الخليفة المهدي سأل أحَد سائسي الخُيول وهو مَطَر بن دَرّاج :”أي الخيل أفضل ؟” قال :”الذي إذا استقبلتَهُ قلتَ نافرٌ وإذا استدْبرتَهُ قلتَ زاخرٌ وإذا استعرضْتَهُ قلتَ زَافِرٌ” قال :”فأيُّ هذه أفضل ؟” قال :”الذي طرْفَه إمامُه وسوطُه عنانُه”
زاخر ممتلئ – زافِرٌ : ضَخمٌ
نلاحظ أنّ السائس قد وصف الفرس من زوايا نظر ثلاث : أوّلها الاستقبال أي أن تنظر قبالة وجهه وعندها يجب أن يظهر كالنّافر وثانيها الاستدبار وهو أن تنظر إليه من جهة المؤخّرة وهنا يجب أن يكون ممتلئا وثالثها الاستعراض وهو أن تنظر إليه من العَرْض ومن هذه الزاوية يكون عظيم الزُّفرة وهي وسط الفرس. غير أن هذه الصفات لا تكفي لاختيار جواد متميّز ويُنْجِدُنا أعرابيٌّ بخصال أخرى عندما سأله معاوية بن أبي سفيان عن أفضل الخيل فأجاب :”الطويل الثلاث القصير الثلاث العريض الثلاث الصافي الثلاث” قال معاوية : “فسّر لنا” قال الأعرابي :”أمّا الطويل الثلاث فالأذن والعنق والحزام، وأمّا القصير الثلاث فالصُّلب والعسيبُ واللَّبَبُ (الصُلب : آخر الظهر – العسيب : منبت الذنب – اللَّبَب : موضع المنحر) وأما العريضُ الثلاث فالجبهة والمِنْخَر والوَرِك، وأمّا الصافي الثلاث فالأديمُ والعين والحافِرُ (الأديم : الجلد)
والملاحظ في كلام السائسَيْن أنّهما أهتمَّا بالصفات الماديّة لدى الخيل وهي التي تجعل الفرس جميل المنظر، هذا في الظاهر ولكن عندما نمعن النظر نجد علاقة وثيقة بين هذه الصفات وسرعَةِ الفرس لأننّا نجد في الشعر أنّه كلّما ظهرت هذه الصفات أو بعضها كان الفرسُ سريعًا سبَّاقًا.
وهذه بعض الأبيات التي تتغنّى بالصفات التي عبّر عنها السائسان نثرًا :
يصف حسان بن ثابت الفرس السريع الذي سيدرك به ممدوحه فيقول :
بكلّ كُميتٍ جوزُه نصفُ خلقه ***أقبَّ طُوالٍ مشرفٍ في الحَوَارك
(الكمت : لون بين السواد والحمْرة – جوزه : وسطُه – الأقبّ : الدقيق الخصر الضامر البطن – الطُّوال : الطويل – الحوَارك : أعالي الكاهل)
وَما عدا لون الكميت فإنّ بقيّة الصفات تساعد على الإسراع في العدو
وقال شاعر آخر :
له ساقا ظليم خاضبٍ فوجئ بالرُّعب
حديدُ الطّرف والمنكب والعرقوب والقلْب
أحيانا يعبّر بعضهم عن هذه الصفات بكنايه لطيفة :
هَرِيتٌ قصير عذار اللّجام ***أسيلٌ طويلُ عذار الرّسن
فقد كنّى بقِصَر عذار اللجام عن صِغَر شق الفم. وكنّى بطول عذار الرّسن عن طول الخدّ (الهريتُ : الواسع الشدقين)
وللعرب طريقة يميزون بها الفرس الأصيل من الهجين وقد حدثتنا كتب الأدب عن هذه الطرق التي لا يجوز أن نعدّها طرقا علميّة وإنّما هي معتمدة على نوع من الخبرة البدائيّة وفي هذا السياق طلب عمر بن الخطاب من الشاعر عمرو بن معدّ يكرب :”كيف معرفتك بعِرَابِ الخيل ؟” قال :”معرفة الانسان بنفسه وأهله وولده” فأمر بأفراس فعُرضت عليه فقال :”قدّموا إليها الماء في التِّراس فما شرب ولم يكتف فهو من العِراب وما ثنى سُنْبُكَهُ فليس منها” وفي رواية أخرى أن عُمر شكّ في العتاق والهِجان فدعا سليمان بن ربيعة الباهلي فأخبره بالأمر فدعا سليمان بطست من ماء فوُضع بالأرض ثم قدّم إليه الخيل فرَسًا فما ثنى سنْبُكه وشرب هجّنه وما شرب ولم يَثن عرَّبَهُ.
وفي الشعر العربي القديم كما في الشعر التونسي الشعبي يوصف الفرسُ مطيّة توصل الشاعر الى الممدوح أو الى الحبيبة التي تفصله عنها الفيافي المخيفة والمهَامِهُ
فهذا أبو الطيّب المتنبّي يمدح بدرًا بن عمار ويقصده على فرس :
فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقاماً *** وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا
عَلى قَلِقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي *** أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا
إِلى البَدرِ بنِ عَمّارِ الَّذي لَم *** يَكُن في غُرَّةِ الشَهرِ الهِلالا…
أشير الى أنّ الكثير من المتأدبين يقرؤون البيت الثاني : (على قَلَقٍ) هكذا بفتح اللاّم ويبنون على ذلك القَلَقَ الوجودي. والحقيقة أنّها بكسر اللاّم وهي صفةٌ لموصوف مستفاد من السياق هو الفرس ومعناه على فرسٍ نشيط دائب الحركة
وهذا الشاعر الشعبي الكبير احْمِدْ البرغوثي يصف المهامِهَ والفيافي الموحشه المعبّر عنها (بالضّحْضَاح) فيقول :
ضحضاح ماشناه يُزْراڨ***يوساع يُغراڨ
غيمه على روس الاشفاڨ***دخَّان غطَّى رواڤة
مهاميد شينَه ورڤراڨ***وخنڨ واطباڨ
وجبال تَعلى وتشهاڨ***هي وسحابه تلاڤى..
ضَعن العرب فيه ياساڨ*** والبوم نڤناڨ
والذّيب بالصُّوت عوَّاڨ***والضبع تسمع زهاڤَه..
ثم يبدي شوقه للحبيبة فيقول :
علي حاز مكحول الأرماڨ ***بوهذب حرَّاڨ
في غيبته خاطري ضاڨ*** ما نيش طايڨ فراڤة..
وبعد وصفها ووصف لوعة البعد يتمنى أن يكون له فرس أصيل يقطع هذا (الضحضاح) ويوصله الى الحبيبة.
ويعبَّر عن الفرس (بالكُوت)
الله لاكُوت هبّاڨ*** في الجرى سبَّاڨ
غدِي سيرتَه موش ڤلاّڨ*** مطلوڨ إيدَه وساڤه
ولد الكحيلة بتحڤڤاق***جابوه سُرَّاڨ
باعوه بيعان تِدَرَاڨ***بِمْيَا و ثلاثين ناڤه
أزرق كما صم الامداڨ***في اللون يُغماڨ
مرشرش ترشريش الاوجاڨ *** دارَه بدارة صفاڤه
صدره كما صيد الاخناڨ***وقوايمة رڤاڨ
وحوافره مثل الاطباڨ***ولعاج أسود حواڤه
بيه نوصل البرّ دَڤاڨ***لا نخاف عيَّاڨ
مقرون وكرطوش لصَّاڨ***وسنڤْي خيار السّناڤه..
ويختم قصيدته بنوع من الفخر بشاعريّته :
تمَّمْت لفظي بتصداڨ*** آڤَة مع آڨ
يصعب على كل لبَّاڨ*** أهل العڤول و اللباڤة..
أشار البرغوثي أن فرسَهُ (ولد الكحيلة بتحڤاڨ) والكحيلة هي مُهرة أصيله تنسب إليها عيَاق الخيل في المرازيق. كما عبّر عن قيمة الفرس بأنّه بيع بكيفية سرّيّة بمائة وثلاثين ناقة وعندما نعلم أنه (جابوه سراڨ) ونعلم في أمثالنا أنّه (باللي يبيع السارق رابح) ندرك أن ثمنه أكثر من ذلك بكثير.
أختم بهذه الطرفة : كان لي صديق عسكري رتبته مقدّم رحمه الله، طلب مني أن أمدحه بقصيدة على النمط القديم، وكان مغرما بسباق الخيل يملك جيادًا يسابق بها ولم يربح قط.
فقلت فيه :
مقدّم قادمٌ سَعى به قَدَمٌ *** الى العلا صاعد في أفْقه الرّحِبِ
مشهّرا فيصلا ليست به فُلُلٌ *** لمّاعة ٌ نَصْلُه في شعلة اللّهب
يلقى الصناديد بالهَيْجَا مدجَّجةً *** بصَوْلة كهزَبْرٍ شائل الذّنبِ
جيادُه في سباق الخيل ما تركت *** وراءها فرسًا في نَقْعةِ التُّرب
فلما سمعها ضحك حتى استلقى.